فصل: تفسير الآيات (22- 23):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الجامع لأحكام القرآن والمبين لما تضمنه من السنة وآي الفرقان المشهور بـ «تفسير القرطبي»



.تفسير الآية رقم (20):

{وَعَدَكُمُ اللَّهُ مَغانِمَ كَثِيرَةً تَأْخُذُونَها فَعَجَّلَ لَكُمْ هذِهِ وَكَفَّ أَيْدِيَ النَّاسِ عَنْكُمْ وَلِتَكُونَ آيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ وَيَهْدِيَكُمْ صِراطاً مُسْتَقِيماً (20)}
قوله تعالى: {وَعَدَكُمُ اللَّهُ مَغانِمَ كَثِيرَةً تَأْخُذُونَها} قال ابن عباس ومجاهد. إنها المغانم التي تكون إلى يوم القيامة.
وقال ابن زيد: هي مغانم خيبر. {فَعَجَّلَ لَكُمْ هذِهِ} أي خيبر، قاله مجاهد.
وقال ابن عباس: عجل لكم صلح الحديبية. {وَكَفَّ أَيْدِيَ النَّاسِ عَنْكُمْ} يعني أهل مكة، كفهم عنكم بالصلح.
وقال قتادة: كف أيدي اليهود عن المدينة بعد خروج النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلى الحديبية وخيبر. وهو اختيار الطبري، لان كف أيدي المشركين بالحديبية مذكور في قوله: {وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ} [الفتح: 24].
وقال ابن عباس: في {كَفَّ أَيْدِيَ النَّاسِ عَنْكُمْ} يعني عيينة بن حصن الفزاري وعوف بن مالك النضري ومن كان معهما، إذ جاءوا لينصروا أهل خيبر والنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ محاصر لهم، فألقى الله عز وجل في قلوبهم الرعب وكفهم عن المسلمين {وَلِتَكُونَ آيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ} أي ولتكون هزيمتهم وسلامتكم آية للمؤمنين، فيعلموا أن الله يحرسهم في مشهدهم ومغيبهم.
وقيل: أي ولتكون كف أيديهم عنكم آية للمؤمنين.
وقيل: أي ولتكون هذه التي عجلها لكم آية للمؤمنين على صدقك حيث وعدتهم أن يصيبوها. والواو في {وَلِتَكُونَ} مقحمة عند الكوفيين.
وقال البصريون: عاطفة على مضمر، أي وكف أيدي الناس عنكم لتشكروه ولتكون آية للمؤمنين. {وَيَهْدِيَكُمْ صِراطاً مُسْتَقِيماً} أي يزيدكم هدى، أو يثبتكم على الهداية.

.تفسير الآية رقم (21):

{وَأُخْرى لَمْ تَقْدِرُوا عَلَيْها قَدْ أَحاطَ اللَّهُ بِها وَكانَ اللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيراً (21)}
قوله تعالى: {وَأُخْرى} {أخرى} معطوفة على {هذِهِ}، أي فعجل لكم هذه المغانم ومغانم أخرى. {لَمْ تَقْدِرُوا عَلَيْها قَدْ أَحاطَ اللَّهُ بِها} قال ابن عباس: هي الفتوح التي فتحت على المسلمين، كأرض فارس والروم، وجميع ما فتحه المسلمون. وهو قول الحسن ومقاتل وابن أبي ليلى. وعن ابن عباس أيضا والضحاك وابن زيد وابن إسحاق: هي خيبر، وعدها الله نبيه قبل أن يفتحها، ولم يكونوا يرجونها حتى أخبرهم الله بها. وعن الحسن أيضا وقتادة: هو فتح مكة.
وقال عكرمة: حنين، لأنه قال: {لَمْ تَقْدِرُوا عَلَيْها}. وهذا يدل على تقدم محاولة لها وفوات درك المطلوب في الحال كما كان في مكة، قاله القشيري.
وقال مجاهد: هي ما يكون إلى يوم القيامة. ومعنى {قَدْ أَحاطَ اللَّهُ بِها} أي أعدها لكم، فهي كالشيء الذي قد أحيط به من جوانبه، فهو محصور لا يفوت، فأنتم وإن لم تقدروا عليها في الحال فهي محبوسة عليكم لا تفوتكم.
وقيل: {أَحاطَ اللَّهُ بِها} علم أنها ستكون لكم، كما قال: {وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْماً} [الطلاق: 12].
وقيل: حفظها الله عليكم. ليكون فتحها لكم. {وَكانَ اللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيراً}.

.تفسير الآيات (22- 23):

{وَلَوْ قاتَلَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوَلَّوُا الْأَدْبارَ ثُمَّ لا يَجِدُونَ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً (22) سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلاً (23)}
قوله تعالى: {وَلَوْ قاتَلَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوَلَّوُا الْأَدْبارَ} قال قتادة: يعني كفار قريش في الحديبية.
وقيل: {وَلَوْ قاتَلَكُمُ} غطفان وأسد والذين أرادوا نصرة أهل خيبر، لكانت الدائرة عليهم. {ثُمَّ لا يَجِدُونَ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلُ} يعني طريقة الله وعادته السالفة نصر أوليائه على أعدائه. وانتصب {سُنَّةَ}
على المصدر.
وقيل: {سُنَّةَ اللَّهِ} أي كسنة الله. والسنة الطريقة والسيرة. قال:
فلا تجزعن من سيرة أنت سرتها ** فأول راض سنة من يسيرها

والسنة أيضا: ضرب من تمر المدينة. {وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا}.

.تفسير الآية رقم (24):

{وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ بِبَطْنِ مَكَّةَ مِنْ بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ وَكانَ اللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيراً (24)}
قوله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ بِبَطْنِ مَكَّةَ} وهي الحديبية. {مِنْ بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ} روى يزيد بن هارون قال: أخبرنا حماد بن سلمة عن ثابت عن أنس أن ثمانين رجلا من أهل مكة هبطوا على النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من جبل التنعيم متسلحين يريدون غرة النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأصحابه، فأخذناهم سلما فاستحييناهم، فأنزل الله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ بِبَطْنِ مَكَّةَ مِنْ بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ}.
وقال عبد الله بن مغفل المزني: كنا مع النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالحديبية في أصل الشجرة التي قال الله في القرآن، فبينا نحن كذلك إذ خرج علينا ثلاثون شابا عليهم السلاح فثاروا في وجوهنا فدعا عليهم النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فأخذ الله بأبصارهم، فقال لهم رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «هل جئتم في عهد أحد أو هل جعل لكم أحد أمانا». قالوا: اللهم لا، فخلى سبيلهم. فأنزل الله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ} الآية.
وذكر ابن هشام عن وكيع: وكانت قريش قد جاء منهم نحو سبعين رجلا أو ثمانين رجلا للإيقاع بالمسلمين وانتهاز الفرصة في أطرافهم، ففطن المسلمون لهم فأخذوهم أسرى، وكان ذلك والسفراء يمشون بينهم في الصلح، فأطلقهم رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فهم الذين يسمون العتقاء، ومنهم معاوية وأبوه.
وقال مجاهد: أقبل النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ معتمرا، إذ أخذ أصحابه ناسا من الحرم غافلين فأرسلهم النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فذلك الاظفار ببطن مكة.
وقال قتادة: ذكر لنا أن رجلا من أصحاب رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقال له زنيم، اطلع الثنية من الحديبية فرماه المشركون بسهم فقتلوه، فبعث النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خيلا فأتوا باثني عشر فارسا من الكفار، فقال لهم النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «هل لكم علي ذمة»؟ قالوا لا؟ فأرسلهم فنزلت.
وقال ابن أبزى والكلبي: هم أهل الحديبية، كف الله أيديهم عن المسلمين حتى وقع الصلح، وكانوا خرجوا بأجمعهم وقصدوا المسلمين، وكف أيدي المسلمين عنهم. وقد تقدم أن خالد بن الوليد كان في خيل المشركين. قال القشيري: فهذه رواية، والصحيح أنه كان مع النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في ذلك الوقت. وقد قال سلمة بن الأكوع: كانوا في أمر الصلح إذ أقبل أبو سفيان، فإذا الوادي يسير بالرجال والسلاح، قال: فجئت بستة من المشركين أسوقهم متسلحين لا يملكون لأنفسهم نفعا ولا ضرا، فأتيت بهم رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وكان عمر قال في الطريق: يا رسول الله، نأتي قوما حربا وليس معنا سلاح ولا كراع؟ فبعث رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلى المدينة من الطريق فأتوه بكل سلاح وكراع كان فيها، وأخبر رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن عكرمة بن أبي جهل خرج إليك في خمسمائة فارس، فقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لخالد بن الوليد: «هذا ابن عمك أتاك في خمسمائة». فقال خالد: أنا سيف الله وسيف رسوله، فيومئذ سمي بسيف الله، فخرج ومعه خيل وهزم الكفار ودفعهم إلى حوائط مكة. وهذه الرواية أصح، وكان بينهم قتال بالحجارة، وقيل بالنبل والظفر.
وقيل: أراد بكف اليد أنه شرط في الكتاب أن من جاءنا منهم فهو رد عليهم، فخرج أقوام من مكة مسلمون وخافوا أن يردهم الرسول عليه السلام إلى المشركين فلحقوا بالساحل، ومنهم أبو بصير، وجعلوا يغيرون على الكفار ويأخذون عيرهم، حتى جاء كبار قريش إلى النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وقالوا: اضممهم إليك حتى نأمن، ففعل.
وقيل: همت غطفان وأسد منع المسلمين من يهود خيبر، لأنهم كانوا حلفاءهم فمنعهم الله عن ذلك، فهو كف اليد. {بِبَطْنِ مَكَّةَ} فيه قولان: أحدهما- يريد به مكة.
الثاني- الحديبية، لان بعضها مضاف إلى الحرم. قال الماوردي: وفي قوله: {مِنْ بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ} بفتح مكة. تكون هذه نزلت بعد فتح مكة، وفيها دليل على أن مكة فتحت صلحا، لقوله عز وجل: {كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ}. قلت: الصحيح أن هذه الآية نزلت في الحديبية قبل فتح مكة، حسب ما قدمناه عن أهل التأويل من الصحابة والتابعين.
وروى الترمذي قال: حدثنا عبد بن حميد قال حدثني سليمان بن حرب قال حدثنا حماد بن سلمة عن ثابت عن أنس: أن ثمانين هبطوا على رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأصحابه من جبل التنعيم عند صلاة الصبح وهم يريدون أن يقتلوه، فأخذوا أخذا فأعتقهم رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فأنزل الله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ} الآية. قال أبو عيسى: هذا حديث حسن صحيح، وقد تقدم. وأما فتح مكة فالذي تدل عليه الاخبار أنها إنما فتحت عنوة، وقد مضى القول في ذلك في الحج وغيرها. {وَكانَ اللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيراً}.

.تفسير الآية رقم (25):

{هُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَالْهَدْيَ مَعْكُوفاً أَنْ يَبْلُغَ مَحِلَّهُ وَلَوْ لا رِجالٌ مُؤْمِنُونَ وَنِساءٌ مُؤْمِناتٌ لَمْ تَعْلَمُوهُمْ أَنْ تَطَؤُهُمْ فَتُصِيبَكُمْ مِنْهُمْ مَعَرَّةٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ لِيُدْخِلَ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ مَنْ يَشاءُ لَوْ تَزَيَّلُوا لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذاباً أَلِيماً (25)}
قوله تعالى: {هُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَالْهَدْيَ مَعْكُوفاً أَنْ يَبْلُغَ مَحِلَّهُ}. فيه ثلاث مسائل:
الأولى: قوله تعالى: {هُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا} يعني قريشا، منعوكم دخول المسجد الحرام عام الحديبية حين أحرم النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مع أصحابه بعمرة، ومنعوا الهدي وحبسوه عن أن يبلغ محله. وهذا كانوا لا يعتقدونه، ولكنه حملتهم الأنفة ودعتهم حمية الجاهلية إلى أن يفعلوا ما لا يعتقدونه دينا، فوبخهم الله على ذلك وتوعدهم عليه، وأدخل الانس على رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ببيانه ووعده.
الثانية: قوله تعالى: {وَالْهَدْيَ مَعْكُوفاً} أي محبوسا. وقيل موقوفا.
وقال أبو عمرو ابن العلاء: مجموعا. الجوهري: عكفه أي حبسه ووقفه، يعكفه ويعكفه عكفا، ومنه قوله تعالى: {وَالْهَدْيَ مَعْكُوفاً}، يقال: ما عكفك عن كذا. ومنه الاعتكاف في المسجد وهو الاحتباس. {أَنْ يَبْلُغَ مَحِلَّهُ} أي منحره، قاله الفراء.
وقال الشافعي رضي الله عنه: الحرم. وكذا قال أبو حنيفة رضي الله عنه، المحصر محل هديه الحرم. والمحل بكسر الحاء: غاية الشيء. وبالفتح: هو الموضع الذي يحله الناس. وكان الهدي سبعين بدنة، ولكن الله بفضله جعل ذلك الموضع له محلا. وقد اختلف العلماء في هذا على ما تقدم بيانه في البقرة عند قوله تعالى: {فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ} والصحيح ما ذكرناه.
وفي صحيح مسلم عن أبي الزبير عن جابر ابن عبد الله قال: نحرنا مع رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عام الحديبية البدنة عن سبعة، والبقرة عن سبعة. وعنه قال: اشتركنا مع رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في الحج والعمرة كل سبعة في بدنة. فقال رجل لجابر: أيشترك في البدنة ما يشترك في الجزور؟ قال: ما هي إلا من البدن. وحضر جابر الحديبية قال: ونحرنا يومئذ سبعين بدنة، اشتركنا كل سبعة في بدنة.
وفي البخاري عن ابن عمر قال: خرجنا مع رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ معتمرين، فحال كفار قريش دون البيت، فنحر رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بدنة وحلق رأسه. قيل: إن الذي حلق رأسه يومئذ خراش بن أمية بن أبي العيص الخزاعي، وأمر رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ المسلمين أن ينحروا ويحلوا، ففعلوا بعد توقف كان منهم أغضب رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. فقالت له أم سلمة: لو نحرت لنحروا، فنحر رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هديه ونحروا بنحره، وحلق رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رأسه ودعا للمحلقين ثلاثا وللمقصرين مرة. وراي كعب بن عجرة والقمل يسقط على وجهه، فقال: «أيؤذيك هوامك»؟ قال نعم، فأمره أن يحلق وهو بالحديبية. خرجه البخاري والدارقطني. وقد مضى في البقرة.
الثالثة: قوله تعالى: {وَالْهَدْيَ} الهدى والهدى لغتان. وقرئ: {حتى يبلغ الهدي محله} بالتخفيف والتشديد، الواحدة هدية. وقد مضى في البقرة أيضا. وهو معطوف على الكاف والميم من {صَدُّوكُمْ}. و{مَعْكُوفاً} حال، وموضع {أَنْ} من قوله: {أَنْ يَبْلُغَ مَحِلَّهُ} نصب على تقدير الحمل على {صَدُّوكُمْ} أي صدوكم وصدوا الهدي عن أن يبلغ. ويجوز أن يكون مفعولا له، كأنه قال: وصدوا الهدي كراهية أن يبلغ محله. أبو علي: لا يصح حمله على العكف، لأنا لا نعلم {عكف} جاء متعديا، ومجيء {مَعْكُوفاً} في الآية يجوز أن يكون محمولا على المعنى، كأنه لما كان حبسا حمل المعنى على ذلك، كما حما الرفث على معنى الإفضاء فعدى بإلى، فإن حمل على ذلك كان موضعه نصبا على قياس قول سيبويه، وجرا على قياس قول الخليل. أو يكون مفعولا له، كأنه قال: محبوسا كراهية أن يبلغ محله. ويجوز تقدير الجر في {أن} لان عن تقدمت، فكأنه قال: وصدوكم عن المسجد الحرام، وصدوا الهدي {عن} أن يبلغ محله. ومثله ما حكاه سيبويه عن يونس: مررت برجل إن زيد وإن عمرو، فأضمر الجار لتقدم ذكره. قوله تعالى: {وَلَوْ لا رِجالٌ مُؤْمِنُونَ وَنِساءٌ مُؤْمِناتٌ لَمْ تَعْلَمُوهُمْ أَنْ تَطَؤُهُمْ فَتُصِيبَكُمْ مِنْهُمْ مَعَرَّةٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ} فيه ثلاث مسائل:
الأولى: قوله تعالى: {وَلَوْ لا رِجالٌ مُؤْمِنُونَ} يعني المستضعفين من المؤمنين بمكة وسط الكفار، كسلمة بن هشام وعياش بن أبي ربيعة أبي جندل بن سهيل، وأشباههم. {لَمْ تَعْلَمُوهُمْ} أي تعرفوهم. وقيل لم تعلموهم أنهم مؤمنون. {أَنْ تَطَؤُهُمْ} بالقتل والإيقاع بهم، يقال: وطئت القوم، أي أوقعت بهم. و{أن} يجوز أن يكون رفعا على البدل من {رجال} {ونساء} كأنه قال ولولا وطؤكم رجالا مؤمنين ونساء مؤمنات. ويجوز أن يكون نصبا على البدل من الهاء والميم في {تَعْلَمُوهُمْ}، فيكون التقدير: لم تعلموا وطأهم، وهو في الوجهين بدل الاشتمال. {لَمْ تَعْلَمُوهُمْ} نعت ل {رجال} و{نساء}. وجواب {لَوْ لا} محذوف، والتقدير: ولو أن تطئوا رجالا مؤمنين ونساء مؤمنات لم تعلموهم لاذن الله لكم في دخول مكة، ولسلطكم عليهم، ولكنا صنا من كان فيها يكتم إيمانه خوفا.
وقال الضحاك: لولا من في أصلاب الكفار وأرحام نسائهم من رجال مؤمنين ونساء مؤمنات لم تعلموا أن تطئوا آباءهم فتهلك أبناؤهم.
الثانية: قوله تعالى: {فَتُصِيبَكُمْ مِنْهُمْ مَعَرَّةٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ} المعرة العيب، وهي مفعلة من العر وهو الجرب، أي يقول المشركون: قد قتلوا أهل دينهم.
وقيل: المعنى يصيبكم من قتلهم ما يلزمكم من أجله كفارة قتل الخطأ، لان الله تعالى إنما أوجب على قاتل المؤمن في دار الحرب إذا لم يكن هاجر منها ولم يعلم بإيمانه الكفارة دون الدية في قوله: {فَإِنْ كانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ} [النساء: 92] قاله الكلبي ومقاتل وغيرهما. وقد مضى في {النساء} القول فيه.
وقال ابن زيد: {مَعَرَّةٌ} إثم.
وقال الجوهري وابن إسحاق: غرم الدية. قطرب: شدة. وقيل غم.
الثالثة: قوله تعالى: {بِغَيْرِ عِلْمٍ} تفضيل للصحابة وإخبار عن صفتهم الكريمة من العفة عن المعصية والعصمة عن التعدي، حتى لو أنهم أصابوا من ذلك أحدا لكان عن غير قصد. وهذا كما وصفت النملة عن جند سليمان عليه السلام في قولها: {لا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ} [النمل: 18]. قوله تعالى: {لِيُدْخِلَ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ مَنْ يَشاءُ لَوْ تَزَيَّلُوا} فيه أربع مسائل:
الأولى: قوله تعالى: {لِيُدْخِلَ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ مَنْ يَشاءُ} اللام في {لِيُدْخِلَ} متعلقة بمحذوف، أي لو قتلتموهم لأدخلهم الله في رحمته. ويجوز أن تتعلق بالايمان. ولا تحمل على مؤمنين دون مؤمنات ولا على مؤمنات دون مؤمنين، لان الجميع يدخلون في الرحمة.
وقيل: المعنى لم يأذن الله لكم في قتال المشركين ليسلم بعد الصلح من قضى أن يسلم من أهل مكة، وكذلك كان أسلم الكثير منهم وحسن إسلامه، ودخلوا في رحمته، أي جنته.
الثانية: قوله تعالى: {لَوْ تَزَيَّلُوا} أي تميزوا، قاله القتبي.
وقيل: لو تفرقوا، قاله الكلبي.
وقيل: لو زال المؤمنون من بين أظهر الكفار لعذب الكفار بالسيف، قاله الضحاك. ولكن الله يدفع بالمؤمنين عن الكفار.
وقال علي رضي الله عنه: سألت النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن هذه الآية {لَوْ تَزَيَّلُوا لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا} فقال: «هم المشركون من أجداد نبي الله ومن كان بعدهم وفي عصرهم كان في أصلابهم قوم مؤمنون فلو تزيل المؤمنون عن أصلاب الكافرين لعذب الله تعالى الكافرين عذابا أليما».
الثالثة: هذه الآية دليل على مراعاة الكافر في حرمة المؤمن، إذ لا يمكن أذائه الكافر إلا بأذية المؤمن. قال أبو زيد قلت لابن القاسم: أرأيت لو أن قوما من المشركين في حصن من حصونهم، حصرهم أهل الإسلام وفيهم قوم من المسلمين أسارى في أيديهم، أيحرق هذا الحصن أم لا؟ قال: سمعت مالكا وسيل عن قوم من المشركين في مراكبهم أنرمي في مراكبهم بالنار ومعهم الأسارى في مراكبهم؟ قال: فقال مالك لا أرى ذلك، لقوله تعالى لأهل مكة: {لَوْ تَزَيَّلُوا لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذاباً أَلِيماً}. وكذلك لو تترس كافر بمسلم لم يجز رميه. وإن فعل ذلك فاعل فأتلف أحدا من المسلمين فعليه الدية والكفارة. فإن لم يعلموا فلا دية ولا كفارة، وذلك أنهم إذا علموا فليس لهم أن يرموا، فإذا فعلوه صاروا قتلة خطأ والديه على عواقلهم. فإن لم يعلموا فلهم أن يرموا. وإذا أبيحوا الفعل لم يجز أن يبقى عليهم فيها تباعة. قال ابن العربي: وقد قال جماعة إن معناه لو تزيلوا عن بطون النساء وأصلاب الرجال. وهذا ضعيف، لان من في الصلب أو في البطن لا يوطأ ولا تصيب منه معرة. وهو سبحانه قد صرح فقال: {وَلَوْ لا رِجالٌ مُؤْمِنُونَ وَنِساءٌ مُؤْمِناتٌ لَمْ تَعْلَمُوهُمْ أَنْ تَطَؤُهُمْ} وذلك لا ينطلق على من في بطن المرأة وصلب الرجال، وإنما ينطلق على مثل الوليد بن الوليد، وسلمة بن هشام، وعياش بن أبي ربيعة، وأبي جندل بن سهيل. وكذلك قال مالك: وقد حاصرنا مدينة الروم فحبس عنهم الماء، فكانوا ينزلون الأسارى يستقون لهم الماء، فلا يقدر أحد على رميهم بالنبل، فيحصل لهم الماء بغير اختيارنا. وقد جوز أبو حنيفة وأصحابه والثوري الرمي في حصون المشركين وإن كان فيهم أسارى من المسلمين وأطفالهم. ولو تترس كافر بولد مسلم رمي المشرك، وإن أصيب أحد من المسلمين فلا دية فيه ولا كفارة.
وقال الثوري: فيه الكفارة ولا دية.
وقال الشافعي بقولنا. وهذا ظاهر، فإن التوصل إلى المباح بالمحظور لا يجوز، سيما بروح المسلم، فلا قول إلا ما قاله مالك رضي الله عنه. والله أعلم. قلت: قد يجوز قتل الترس، ولا يكون فيه اختلاف إن شاء الله، وذلك إذا كانت المصلحة ضرورية كلية قطعية. فمعنى كونها ضرورية، أنها لا يحصل الوصول إلى الكفار إلا بقتل الترس. ومعنى أنها كلية، أنها قاطعة لكل الامة، حتى يحصل من قتل الترس مصلحة كل المسلمين، فإن لم يفعل قتل الكفار الترس واستولوا على كل الامة. ومعنى كونها قطعية، أن تلك المصلحة حاصلة من قتل الترس قطعا. قال علماؤنا: وهذه المصلحة بهذه القيود لا ينبغي أن يختلف في اعتبارها، لان الفرض أن الترس مقتول قطعا، فإما بأيدي العدو فتحصل المفسدة العظيمة التي هي استيلاء العدو على كل المسلمين. وإما بأيدي المسلمين فيهلك العدو وينجو المسلمون أجمعون. ولا يتأتى لعاقل أن يقول: لا يقتل الترس في هذه الصورة بوجه، لأنه يلزم منه ذهاب الترس والإسلام والمسلمين، لكن لما كانت هذه المصلحة غير خالية من المفسدة، نفرت منها نفس من لم يمعن النظر فيها، فإن تلك المفسدة بالنسبة إلى ما حصل منها عدم أو كالعدم. والله أعلم.
الرابعة: قراءة العامة {لَوْ تَزَيَّلُوا} إلا أبا حيوة فإنه قرأ {تزايلوا} وهو مثل {تزيلوا} في المعنى. والتزايل: التباين. و{تزيلوا} تفعلوا، من زلت.
وقيل: هي تفيعلوا. {لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا} قيل: اللام جواب لكلامين، أحدهما: {لَوْلا رِجالٌ} والثاني: {لَوْ تَزَيَّلُوا}. وقيل جواب {لَوْلا} محذوف، وقد تقدم. {ولَوْ تَزَيَّلُوا} ابتداء كلام.